وصلتنى رسالة من قسيس مصرى اسمه ديفيد نجمى يعمل فى ألمانيا يحكى فيها هذه القصة التى لها دلالات مهمة سأعرضها لكم دون تعليق وبلغتها العامية لتعرفوا معنى كلمة مواطنة فى بلد علمانى: فى أوائل 2013 بدأ واحد من أكبر الجدالات الدينية فى ألمانيا، بعد شراء مسلمين واحدة من أكبر كنائس هامبورج وإعلان نيتهم تحويلها إلى جامع. القصة كلها بدأت فى فبراير 2013 بعد انتشار خبر شراء مركز النور الإسلامى كنيسة Kapernaumkirche فى مقاطعة هورن. الكنيسة كانت شبه مهجورة، عدد زوارها من البروتستانت قل، وتمويلها من الكنيسة الأم تضاءل، فجاءت الفكرة بعرضها للبيع، واستغلال عوائدها فى تمويل كنائس أخرى.. بس مجاش فى بال الكنيسة البروتستانتية أن المشترى هيكون مسلم، ممكن يكون مستثمر يحولها لكافيه، ولّا مول ولّا أى حاجة، بس إنها تبقى جامع ده ممكن يسبب صدمة للسكان المحليين المقدر عددهم بـ1.8 مليون نسمة أغلبهم مسيحيون. تجمع النور الإسلامى العربى فى هامبورج دفع نصف مليون يورو تمن للكنيسة واشتراها. الخبر اتسرب من هنا، وأنصار حزب Pro Deutschland أو مناصرى ألمانيا اللى بيضم فى معظم أعضائه نازيين جدد، خرج فى مظاهرات يندد فيها بتحويل الكنيسة لجامع ويرفع الشعار الأكثر جذباً للشعبويين (أسلمة ألمانيا).. المدينة انقسمت على نفسها، كما انقسمت ألمانيا. سياسيون مؤيدون لتحويل الكنيسة لجامع، وآخرون معارضون. رجال دين كاثوليك وبروتستانت مؤيديون، وآخرون معارضون. حالة الانقسام استغلها النازيون فى هامبورج وأعلنوا نيتهم الاعتصام أمام مبنى الكنيسة. فما كان إلا أن خرجت مظاهرة أضخم من اللى دعا لها النازيون بتضم علمانيين من جماعة Hamburger Bündnis gegen Rechts أو اتحاد هامبورج ضد اليمين المتطرف، ومواطنين عاديين يهمهم أن مدينتهم تفضل رمز للتعدد والمساواة، والأهم اثنان من رجالات الدين فى الكنيسة الإنجيلية والقائمين على إدارة كنيسة مارتن Martinkirche فى هامبورج، هما القس بوكهارد كيرش، والقسيسة سوزانا يول.. القس والقسيسة ألقيا فى المتظاهرين المؤيدين لبناء الجامع محل الكنيسة خطبة عصماء، نددا فيها بالروح النازية الدخيلة على مدينتهم، وقالت سوزانا يول إن تحويل كنيسة لجامع أفضل من تحويلها لسوبر ماركت، لأنها فى النهاية هتفضل من بيوت الله المفتوحة فى خدمة الله، وده سبب كافى لدعم المسلمين، خصوصاً أن جمعية النور مالهاش جامع فى المقاطعة دى غير الموجود فى شارع سانت جورج، وده مش جامع ده مجرد جراج عربيات تحول لجامع لا يلبى احتياجات المسلمين المتزايدة.. انتهت المظاهرات الحاشدة من كل طرف فى مقابل الآخر، ونجح دانيال عابدين، أمين عام جمعية النور، فى الحصول على ترخيص للمسجد الجديد، وبدأ فى جمع تبرعات من أهالى هامبورج، لتحويل الكنيسة لجامع، واللى هيتكلف حوالى مليون ونصف المليون يورو. المناوشات ماخلصتش ومؤتمرات النازيين التحريضية استمرت، فما كان من القس والقسيسة إلا أن دعا كل منهما لسلسلة مؤتمرات تنظم داخل المسجد الجديد بهدف طمأنة من لديه أى شك فى نوايا المسلمين.. اتعملت 3 مؤتمرات متصلة بعنوان Dialog auf der Baustelle، «الحوار فى موقع البناء»، أغلب حضورها كانوا مسيحيين ألمان، آخرها كان فى 30/ 8 اللى فات، وحضر القنصل الأمريكى نانسى لين كوربت عشان تشوف تجربة عظيمة فى تاريخ ألمانيا بتحويل كنيسة لجامع وأخرى فريدة بمساندة قساوسة لحق المسلمين فى التعبد فى مكان يليق بدلاً من جراج. لكن التجسيد الأعظم لثقافة الحوار كان من يومين فى 3 أكتوبر، يوم الوحدة الألمانية.. فى اليوم ده الجوامع بتفتح أبوابها فى ألمانيا لكل الزوار من كل الديانات، فى إطار مناسبة اسمها Tag der offnen Moschee أو «يوم المسجد المفتوح»، عشان تعرف الألمان على الإسلام ورسالته السلمية، وتبدد مخاوفهم، وتمحو هواجسهم. وطبعاً الجامع الجديد اللى لسه بيستكمل مراحل تشطيبه الأخيرة فتح بابه فى وجه من كانوا يوماً أصحاب المكان الأصليين. وعشان المشهد يبقى واضح بالظبط.. تخيل رجلاً خمسينياً ألمانياً من سكان مقاطعة هورن، قضى طفولته وشبابه فى الكنيسة، ولما أغلقت أبوابها لقلة التمويل، راح كنيسة تانية على أمل العودة لها مرة أخرى، ولما فتحت أبوابها تحولت لجامع، وبدل ما ييجى يسمع عظة الأحد، لقى نفسه بيسمع خطبة الجمعة. تخيل وستدرك عظم ومهابة التحول.. ومع ذلك لا غضاضة فى قلب الرجل، لأنها لم تفقد هيبتها كدار عبادة.. ممكن تحط عناوين كثيرة لقصة تحويل كنيسة إلى أضخم جامع فى هامبورج.. نصر من الله لدينه.. جائز.. الإسلام ينتشر فى ألمانيا.. ممكن جداً.. لكن أياً كان اختيارك للعنوان ستبقى حقيقة واحدة راسخة لن تستطيع تجاهل تفاصيلها فى سردك.. ماكانش بإمكان المسلمين ينتقلوا من جراج عربيات لجامع عملاق، وماكانش ممكن لكنيسة أثرية أن تتحول لمسجد، إلا بجهود رجال دين مسيحيين، وشباب مسيحيين، ومواطنين مسيحيين.. خاضوا معاركهم الإعلامية والميدانية فى مواجهة مسيحيين آخرين، ونجحوا فى نصرة قضيتك، فقط لأنهم آمنوا بحقك فى العبادة، وفى مكان لائق لممارسة شعائرك.. حتى إن كانت فى كنيسة راسخة فى ذاكرة آبائهم ووجدانهم الدينى.. دى بقى اللى بيسموها مواطنة.. ودى اللى بيقولوا عليها حرية دينية.. يمارسها كائنات اسمهم بنى آدمين.. فى حاجة لسه ماسمعناش عنها اسمها الدولة.